فلتَنصُتَ قليلًا.
بقلم الكاتبة أسيل احمد ابو غثيث
ستسألُني: من هيَ؟
فأُجيبكَ بمن لا يفيها جوابٌ، ولا يُرضي كرمُها مدحٌ برّاق، ستقولُ لي: مُبالغةٌ، سأصُدُّك بكلّا؛ بل قليلًا ممّا تستحقَّ وتنال، ستقولُ لي بدهشةٍ: اخبريني عمّا هي عليهِ الآن، سآخذَ بضعَ أنفاسٍ وأبدؤ أُردّدُ لَك: بأنّها موطنًا يضُجّ بالسّلامِ، أُمًّا تلوذُ لها فِرارًا من كُرَب الحَياة، تُدثّركَ بدفئِ ذِراعَيها وتقولُ لكَ: اطمئِن أنت في لُجّةَ الأمانِ، وبعيدًا عن نفحاتِ الخَراب، هي كومةُ عطفٍ في عالمٍ اجتاحهُ البرودَ، وعمّته أطيافًا من القساوةِ وانعدامَ ما سّمّي بالرّحمة آنذاك، إنّها صُلبَ الاكتراثِ لكَ في مجرّةٍ باللّامبالاةِ تحلّتْ، هيَ سلامٌ في زمنٍ كثُرَت فيهِ حروبُكَ وعمّك الدّمار، هي صمودٌ لك حيثُ تميلَ عنِ الثّبات، هيَ انتماؤكَ ولاؤكَ حين تنهشُكَ أنيابُ الغُربةِ، وتقولُ لكَ: لا سلام، هي دليلُكَ حين تنصاعُ بكَ السّبُل، وتتوهُ بكَ بوصلةَ الطّريقِ ذاك، هي كُلّ هذا وكثيرًا من بذلِها لم يُذكرَ حتّى، ستتلعثمَ وترُدّني بدهشةٍ: لا فهذا مُحال، وجَمًّا من النُّطقِ المعسولِ؛ فهي أيًا كانت بشرًا مثلُنا تنحاز، وبينها وبينَ الكمالِ أميال، سأُجيبُك: حسنًا، تنحازَ لكن بعيدًا عن القاعِ، ليست كاملةً فالكمالُ للّه، لكنّها لا يعيبُها شيئًا، وحالَما رأيتَها قُلتَ: سُبحانَ الله أهي بشرٌ أم مَلاك؟
سترُدّني بقهقهةٍ وتقولُ: مثلَما أخبرتُكِ سابقًا، كلامًا معسولًا، مزوفًا بصِيغِ المُبالغةِ والتّفضيل، سأقولُ لكَ: شيئًا عاديًا، بسيطًا على جنسٍ بالتّضحية قد عاهدَ نفسِه، ستُجيبني بغطرسَةٍ: لولا ضِلعي ما وُجِدتْ تلكَ حوّاء، سأَصُدّكَ: لا تنغَرّ يا عزيزي، فلولا رحمِها ما وُجِدْتَ، ولولا أمومَتِها وتلكَ العاطفةِ ما كانَت لكَ وُجهةٌ، ولتشَرْذَمتَ في دوامّةِ الحَياة، ستقولُ: كَفى، وأجلْ هيَ كُلّ شيءٍ، وإنّي بغيرِها أُهمّشَ حدّ الإلحاد، لكنّ كِبريائي لم يُتيحَ لي فرصةً يومًا أن أقولَ: هيَ حوّاء، سأتنهّدُ أخيرًا وأقولُ لك: عجبًا لأمركَ يا ابن آدم، قُوّةٌ، غطرسَةٌ، كبرياءٌ، وتاءُ تأنيثٍ، واسمُ هي تسوقُكَ لساريةَ السّلام! تحميكَ من متاهاتِ ولُجّةَ الضّياعِ في هذه الحَياة!
ستقولُ لي: كبرياءٌ تجلّى وحاصَرني، حوّاءٌ هيَ موطِني، أُمّي، شقيقَتي وشقّيَ الأيسرَ الذي لا ينحَني وقتَ يتَزحزحَ بعيدًا عنّي ذاكَ الثّباتِ، لا أُنكِرُ أنّني بالكبرياءِ لمُكلّلٌ، لكنّ النُّكرانَ يأبى الاقترابَ من معروفِها لي، حُسنَها الذي لطالما رسّختهُ في كُلّ خليّةٍ انغرسَتْ في جَسدي من المَهدِ لِـ اللّحد، لا أستطيعُ بالنأيَ بكُلّ ما قدّمتهُ لشَخصي، لاسمي ولكَياني، أكادُ أُجزمُ والبعضُ لا يصَدّق أنّني لها ممتَنٌّ، وإليها لألجأ، بل حتى مِن دونِها لأعجَزْ، سيسألونَني: لِمَ كُلّ هذا؟
حسنًا سأُخبركُمْ: فهي كانت لي حياةٌ عندما شارفت قُوّاي على المَمات، كانت السّلامُ حين ضجّت أرضي بصدوعِ الحُروب والاضطِرابات، باتت كُلّ شيءٍ يُحيِني وكأنّها الماءَ وكُلّ شيءٍ منها ينهُضَ كالنّبات، أكادُ أُقسمُ أنّ لولاها لسِرتُ مع تيّارَ الوحدةِ، وساقَتْني الحياةُ لأبوابَ الاكتِئاب، سيظُنّ المُعظمُ أنّي لكاذبًا، وسيدُهشَ من انقلابَ رأيي هكذا بسُرعةَ الرّياح، لكنّ الحقيقةُ تأبى الاستسلامِ، والكبرياءُ لا ينتصرَ دومًا يا عَوام، أتأسّفُ إن أطلتُ الحديثَ؛ لكنّ ختامي سيكُنْ: سامحيني يا حوّاء، إن بيومٍ أشعرتُكِ بالنّقصِ، أو إن لَم أكُنْ لحُقوقكِ لمُوفٍ، إنّني بحروفُ اسمُكِ لهائمٌ، ولكُلّ ضميرٍ واسمٍ يعودُ عليكِ لكاتبٌ، عسى حوّاء تُتوّج بأشكالَ التّبجيلِ، وعسى بمُحقّرات اسمُها أن تنصاعَ بعيدًا، ليسَ مدحًا زائدًا ولا تكلُّفًا والله، لكنّ الحياةُ دونَها طريقًا من الخضارِ قد تجرّد، وحياةً منَ الأُناسِ قد تصحّرَت، حوّاءْ يا بدرُ اللّيلِ، ويا شمسُ الصّبيحة، يا ضياءً الكونَ عنه ليسَ باستِغناء.